دار المعارفشخصيــــات في حياتيمقالات صحفية

عبود على الحدود

طيلة سبع سنوات، توليت فيها إدارة الشئون المعنوية، بالقوات المسلحة المصرية، لم يتغير روتيني الصباحي؛ فقد كنت أصل، يومياً، إلى المبنى في تمام السابعة صباحاً، فأتوجه، مباشرة، إلى صالة الرياضة، لمدة ٤٥ دقيقة، يعقبها حمام ساخن، ووجبة إفطار، مكونة من علبة زبادي، مضافاً إليها معلقتين من العسل الأبيض، قبل أن أجلس على مكتبي، في تمام الثامنة صباحاً، لأباشر عملي بنشاط.

وكان اليوم هو السبت، وفور دخولي إلى مكتبي، أبلغني السكرتير، بوجود ضيفان في الصالون، يطلبان مقابلتي، وهما المخرج شريف عرفة، والفنان علاء ولي الدين، رحمة الله عليه، فاستقبلت ضيوفي الأعزاء، ورحبت بهما، ثم مازحت المخرج شريف عرفة، قائلاً، “لولا أنك ضيفي اليوم، لقبضت عليك، حتى ترد الدفعة المقدمة، التي كنت قد استلمتها، لإخراج فيلم كبير عن حرب أكتوبر” … فضحك وقال، “يا فندم أنا جاهز لإخراج الفيلم فوراً، ولكن أنتم اللي متأخرين”. وتألمت حسرة، فلم ينطق إلا بالحقيقة، ولا ذنب له في التأخير … وحتى المخرجين الثلاثة، الذين كنا قد تعاقدنا معهم من هوليود، لإخراج المشاهد الحربية، البرية والبحرية والجوية، على أتم استعداد للبدء في العمل، بل إنهم كانوا، حتى حينه، يتواصلون معي، يومياً، للمتابعة!!!

ثم استفسرت عن سبب الزيارة الكريمة، وكنت قد لاحظت أن الراحل العزيز علاء ولي الدين، قد كست وجهه علامات الانزعاج، والقلق، وغيرت ملامحه الضاحكة، التي اعتدنا عليها، فبادرني رحمة الله عليه، قائلاً “يا فندم أنا لم أذق طعم النوم منذ يومين … أنا هموت، وهيتخرب بيتي أنا وشريف عرفة … لقد وضعنا كل ما نملكه من أموال، وشريف باع شقة له في الإسكندرية، واقترضنا من البنك وهذه أوراق الإثبات، وكل ذلك لإنتاج فيلم ‘عبود على الحدود‘ بعدما حصلنا على موافقة القوات المسلحة، وتم تصوير أجزاء من الفيلم في مدرسة الصاعقة … وأنتجنا الفيلم بهدف تحذير الشباب وتوعيتهم من مخاطر المخدرات”.

ثم التقط المخرج شريف عرفة الحديث، مستطرد، أنهم قد انتهوا من الفيلم، وتحدد افتتاحه بعد غد، الاثنين، في تمام الساعة الخامسة مساءً، في حفل كبير، بحضور الزملاء، ومديري شركات التوزيع في العالم العربي، كما تم حجز دور السينما لعرض الفيلم في اليوم التالي، إلا أنهم قد تلقوا خطاب، بالأمس، بعدم موافقة القوات المسلحة على عرض الفيلم، باعتباره يسئ للمؤسسة العسكرية، وأضافا بأنهما لا يمكن أن يسيئا للجيش المصري أبداً، الذي يعتبرانه شرف لمصر بأكملها … ثم ناولاني نسخة من الفيلم، وطلبا مني مشاهدتها للتأكد بنفسي.

أمام جزعهما، وضيق الوقت، طلبت من السكرتير منع أي اتصالات، لحين الانتهاء من مشاهدة الفيلم … والحقيقة أن الفيلم كان رائعاً، وليس به أَي شبهة إساءة للقوات المسلحة، فقلت لهم أنني أتوقع وجود خطأ غير مقصود، ووعدتهم أن أتوجه على الفور إلى مقر وزارة الدفاع لاستطلاع الأمر، والاتصال بهما عند عودتي.

فور وصولي إلى الوزارة، استعلمت عن الأمر، فعرفت بأن هناك لجنة قد اجتمعت، بالفعل، وشاهدت الفيلم، وخلص قرارها بعدم جواز عرض الفيلم، لما فيه من إساءة للقوات المسلحة، تجلت لأعضاء اللجنة، من أحد مشاهد الفيلم، الذي أظهر الجنود وقد ضلوا طريقهم في الصحراء، فاعتبروها إساءة في حق الجندي المصري!!!

لا أنكر صدمتي من الموقف، ومن التبرير، فلملمت تلك الأوراق، واستأذنت سيادة المشير طنطاوي في عرضها عليه، معلقاً على هذا المشهد، تحديدً، بقولي “يا فندم ده روميل كان بيتوه في الصحراء الغربية … وأكثر الأفلام التي أحبها الشعب المصري، وأحب معها الجيش، هي سلسلة أفلام اسماعيل ياسين في الجيش، والأسطول، والطيران … وأجمل الأفلام الكوميدية في الغرب هي أفلام نورمان ويزدم في الجيش”. فصمت المشير طنطاوي للحظات، قبل أن يقرر عقد لجنة جديدة، غداً الأحد، لمشاهدة الفيلم، فأكدت له عدم وجود أي شبهة إساءة في الفيلم، وإلا لما كنت طلبت لقاءه. وهنا كرر المشير جملته الشهيرة، “في كل جيوش العالم ديمقراطية القرار … وديكتاتورية التنفيذ”، وقرر تشكيل لجنة عاجلة، برئاستي، وعضوية 12 فرد، وبالفعل انعقدت اللجنة، في صباح الأحد، وتم عرض الفيلم، وانتهت اللجنة إلى صلاحية الفيلم للعرض، من وجهة نظر القوات المسلحة.

أصبح على مكتب المشير طنطاوي، تقريرين، الأول يرى منع الفيلم، والثاني يوصي بعرض الفيلم، كل منهما مصحوب بمبرراته. ونظراً لوجود وزير الدفاع، ورئيس الأركان في مهمة، خارج القاهرة، في ذلك اليوم، فكان لزاماً أن ننتظر إلى صباح يوم الاثنين، لعرض التقارير على المشير طنطاوي، للقرار النهائي. وفي صباح يوم الاثنين، قرر المشير طنطاوي أن يشاهد الفيلم بنفسه، مع الفريق مجدي، رئيس الأركان، مقتطفات من الفيلم، وانتهى قراره إلى عرض الفيلم، باعتباره فيلم يحمل رسالة لتوعية الشباب بخطورة المخدرات، بصورة خفيفة ومبسطة، دون إساءة، على الإطلاق. ثم مازحنا بقوله “كل مرة تشكلوا لجنة للبت في مشكلة لفيلم، لازم أكون أنا والفريق مجدي ضمنها”.

كانت الساعة قد قاربت على الثانية ظهراً، وموعد الحفل بعد ثلاث ساعات، فانطلقت لكتابة خطاب موافقة القوات المسلحة على عرض الفيلم، واتصلت بالمخرج شريف عرفة لأبلغه بالموافقة، فقال لي “أنا كنت مجهز شنطة السجن عشان فلوس البنك”، أما علاء ولي الدين، رحمه الله، فقال “أنا تخين ومش هقدر استحمل السجن”.

وفي كل مرة يصادفني عرض الفيلم على شاشات التليفزيون، أجلس أمامه لاستمتع به، وأتذكر معركة “عبود على الحدود” في وزارة الدفاع، وأتذكر شعار القوات المسلحة … “ديمقراطية اتخاذ القرار … وديكتاتورية التنفيذ”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى