الأهراممقالات صحفيةموضوعات عامـــة

الحرب والصيام

يحل علينا، خلال يومين، واحدة من أعظم وأهم ذكريات الوطن… ذكرى يوم العاشر من رمضان، ذكرى حرب تحرير سيناء، فى السادس من أكتوبر من عام 1973. يوم أن حقق الجيش المصرى أعظم انتصاراته، فى تاريخه، فى العصر الحديث.

فى هذا اليوم أترحم على اللواء صلاح فهمي، أحد ضباط هيئة العمليات، الذى تم تكليفه باختيار أنسب توقيتات لهجوم الجيش المصرى والسورى معاً، على قوات العدو الإسرائيلي، فاختار، بحنكة، يوم السادس من أكتوبر، لتزامنه مع عيد الغفران، أحد الأعياد الدينية اليهودية، التى تعظمها إسرائيل، يُحّرم فيه استخدام العربات والمركبات. وتزامن يوم السادس من أكتوبر، مع يوم العاشر من رمضان، لبدء الهجوم، لاعتقاد العدو الإسرائيلى أن المصريين لن يقووا على القتال فى رمضان. فكان حسن اختياره أحد أسباب الانتصار، إذ نجح فى خداع الجيش الإسرائيلي، وفاجأه بقدرة المقاتل المصرى على القتال وهو صائم فى شهر رمضان.

أعود بالذاكرة لثلاثة من أعز أصدقائي، اللواء كمال عامر، رئيس لجنة الدفاع والأمن القومى الحالى فى مجلس النواب، واللواء محسن السلاوي، مستشار السيد رئيس الجمهورية حالياً، واللواء أحمد سعودي، رحمة الله عليه، الذى كان برتبة رائد آنذاك، أثناء دراستنا فى كلية أركان حرب، وكنا نذاكر كل ليلة سوياً لمدة عام ونصف العام، وعندما حضر الفريق سعد الدين الشاذلي، لمناقشة الطلبة فى خطة العبور واقتحام قناة السويس وما أطلق عليه «التوجيه 41»، لم يكن أى منا يتوقع، أنه بعد أيام من هذا النقاش، سننفذ هذه الخطة لتحرير سيناء.

وبعد أيام من هذا اللقاء، تم إبلاغنا بقرار تخرج دفعتنا فى الأسبوع التالي، وكنا الدفعة الوحيدة فى كلية القادة والأركان التى ليس لها صورة تذكارية لحفل تخرجها. فعندما تدخل متحف الكلية ستجد صورا تذكارية لكل الدورات منذ عهد الرئيس جمال عبدالناصر، حتى وقتنا هذا، إلا الدورة 25، فستجد صورا شخصية لأفرادها، وليس صورة تجمعهم معا، بعدما تخرجنا على عجل، استعدادا لحرب أكتوبر. ولما كان ترتيبى الأول على الدورة، كانت مكافأتى توزيعى على هيئة عمليات القوات المسلحة، وهو شرف لأى ضابط فى القوات المسلحة، فقضيت أيام الحرب كلها فى غرفة عمليات القوات المسلحة. وأذكر دخول الرئيس محمد أنور السادات علينا، فى صباح يوم السادس من أكتوبر، وقبل بدء الضربة الجوية، ومن خلفه جنود يحملون صوانى، رصت عليها الشطائر والعصائر، وأبلغنا بأن فضيلة المفتي، أصدر فتواه بجواز إفطارنا فى رمضان، لأننا فى جهاد للدفاع عن بلدنا مصر. وبدأ الجنود فى توزيع الوجبات، فأخذ كل منا طعامه وشرابه، ووضعه أسفل مكتبه.

لقد كانت تلك اللحظات الأخيرة قبل العبور، حيث اندفعت قوات الصاعقة إلى عمق سيناء لملاقاة الاحتياطات الإسرائيلية، لمنعها من التدخل ضد قواتنا التى تعبر القناة. بينما الصاعقة البحرية قد عبرت القناة لسد فتحات النابالم، التى كان العدو الإسرائيلى قد زرعها بهدف تحويل سطح مياه القناة إلى جهنم تحرق القوارب والجنود التى تعبر القناة.

لم يفطر أى منا فى ذلك اليوم إلا بعد التاسعة مساء، عندما جاءت المجموعة الثانية لتسلم ورديتها منا، فقد أشبعتنا حلاوة أخبار سقوط نقاط خط بارليف وعبور قواتنا للقناة. أما باقى أصدقائى على جبهة القتال، فلقد كان محسن السلاوى يعبر ضمن الموجات الأولى فى قوارب الاقتحام، ولم يكن مع هذه الموجات إلا «قوالب الفولية»، التى نطلق عليها «تعيين القتال»، ويحكى صديقى محسن السلاوي، أن أول قضمة من قالب الفولية، كانت فى العاشرة مساء، بعد العبور، وتدمير نقاط خط بارليف، واندفاعه فى عمق سيناء ليحفر لنفسه، مثل باقى الجنود، الحفر البرميلية، التى كان كل فرد يحتمى بها من ضربات العدو. وكان نصيب كل جندي، ممن عبروا القناة، هو قالب الفولية لمدة 3 أيام، حيث كانت الأولوية فى العبور، بعد نصب الكباري، للدبابات، ثم المدفعية، ثم عربات الذخيرة، تليها مراكز القيادة، وأخيراً عربات الطعام والمياه. أما أخى كمال عامر فقد عبر، أيضاً، فى الموجات الأولى بقوارب المطاط، لا يحمل، مثله مثل نصف مليون جندى على الجبهة، سوى قالب الفولية وزمزمية المياه، ولكن كان يملؤهم الإيمان بالنصر وتحرير الأرض.

وبعد انتهاء الحرب، وانتصارنا العظيم الذى خلده التاريخ، اجتمعنا معا نحكى ذكريات كل منا، ولم أسلم من مزاح أصدقائي، «أيوه يا عم … إحنا قالب فولية وأنت سندوتشات من الرئيس السادات»، خاصة أن الأخ كمال عامر، الذى كان مسئولاً أيام المذاكرة عن إطعام المجموعة بسندوتشات الكبدة والسجق كل ليلة.

أقسم بالله، عندما تجمعنا مائدة طعام الإفطار فى رمضان، كل عام، نتذكر هؤلاء الأبطال الذين عبروا القناة، واستردوا لمصر كرامتها وعزتها وشرفها، وقاتلوا فى شهر رمضان المبارك … وأتذكر، بابتسامة، قالب الفولية لنصف مليون جندى حققوا أغلى انتصار لشعب مصر العظيم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى