الأهراممقالات صحفيةموضوعات عامـــة

عندما تتنزل العدالة من السماء

في حياة كل منا مواقف، تظل عالقة في أذهاننا، نتذكرها دائماً، ونتذكر منها قدرة المولى عز وجل، وتجليه في كل وقت، وخاصة في اللحظات الحرجة. تبدأ الحكاية بعد تعييني وكيلاً أول لوزارة السياحة، فور انتهاء خدمتي بالقوات المسلحة المصرية، وهو المنصب الذي قضيت فيه ستة أشهر فقط، ولكنها حملت الكثير من الأحداث.

اتصل بي السيد وزير السياحة، في صباح أحد الأيام، ليبلغني بتحقيق كبير، في جريدة الجارديان البريطانية، حول تردي السياحة النيلية في مصر، خاصة بين الأقصر وأسوان. وكانت السياحة البريطانية، حينها، هي العصب الرئيسي للسياحة النيلية في مصر، الذين ارتبطوا بها بعد رواية أجاثا كريستي الشهيرة Death on the Nile، أو جريمة على النيل. والحقيقة أن السياحة النيلية، من أجمل الرحلات السياحية في العالم، دونما تحيز.

وبناءً على الاتصال، قمت، على الفور، بتكوين لجنة، من 40 مفتشا، من جميع الجهات المعنية؛ السياحة والدفاع المدني للمرور على الفنادق العائمة والتأكد من استعدادها لمقاومة الحريق، ومن الصحة للتأكد من سلامة الأغذية والمشروبات، ومن الري للتأكد من سلامة بدن السفينة، وفقاً للمواصفات العالمية، وهكذا. وتحركنا إلى الأقصر، وبدأنا العمل فوراً على رصيف الفنادق العائمة، وفي نهاية اليوم، تقدم رئيس مجموعة التفتيش من وزارة الصحة، وله سلطة الضبطية القانونية، بتقرير مكتوب، ذكر فيه أن ثلاثة فنادق بها خطر داهم، وهذا الاصطلاح يعني إيقاف عمل هذا الفندق العائم، فوراً، ونقل جميع قاطنيه إلى فندق آخر، لاستكمال رحلتهم، خصماً على حساب فندقهم الأصلي. كذلك تقدم لي ممثل وزارة الداخلية بتقريره، عن هذه الفنادق الثلاثة، بأن طلمبات الحريق بها لا تعمل، موصياً بإيقاف العمل بهذه الفنادق.

وأمام تلك المخالفات، أصدرت أوامري، فوراً، لرئيس شرطة السياحة، باتخاذ اللازم لنقل ركاب الفنادق الثلاثة، إلى فنادق أخرى جاهزة للتحرك، وهو ما تم بالفعل في غضون ساعتين. وخلال تلك الإجراءات، أفادني أحد أعضاء اللجنة، من وزارة السياحة، بأن مالك أحد الفنادق الثلاثة من كبار رجال الأعمال في مجالي السياحة والفن، فأجبته القانون مفيهوش زينب. إلا أنني تلقيت في ذات المساء مكالمة، شديدة اللهجة، من السيد الوزير، بأن قراري هذا من شأنه تدمير السياحة في مصر، وأنه يستلزم استشارة الوزير فيه قبل إصداره. ولم يقتنع السيد الوزير بمسببات قراري، طالباً إيقاف ذلك القرار فوراً.

كنت أعلم أن لقراري تبعات كثيرة، ولكن أمام تهديد أرواح البشر، وما يتبعه من الإساءة لسمعة السياحة في مصر، فقد أبلغت السيد الوزير بأن قراري يتسق مع صحيح القانون، باعتباري رئيس لجنة التفتيش، وإصداره، في ظل عدم صلاحية تلك الفنادق العائمة للملاحة، لا يستلزم استشارة الوزير المختص، أما إلغاؤه، بناءً على رغبة السيد الوزير، فيستلزم كتابا رسميا، بتوقيع سيادته، يفيد بذلك، وانتهت المكالمة، وغادرت رصيف الميناء.

استيقظت في صباح اليوم التالي على مقال شديد القسوة، في جريدة الأخبار، بعنوان «قراقوش السياحة الجديد … والقضاء على السياحة في مصر» متحدثاً عن وكيل الوزارة الجديد، الذي هبط بالباراشوت على وزارة حيوية، ويتسبب في تدمير السياحة، بقراراته العشوائية … ثلاثة أعمدة كاملة، تُشعر قارئها بالأسى على حال السياحة في مصر بسبب ذلك القراقوش الجديد.

وجاءتني مكالمة جديدة من السيد الوزير يحملني فيها أسباب الإساءة إلى الوزارة وإلى السياحة في مصر. فأبلغت سيادته، مرة أخرى، بأنني لن ألغي قراري دون كتاب رسمي من سيادته، وبالفعل أرسل لي فاكساً في العاشرة صباحاً، بإلغاء قراري. والحقيقة أن قراري كان قد نُفذ بالفعل، وتحرك السياح على متن فنادقهم العائمة الجديدة إلى أسوان في الليلة السابقة. ظللت في ذلك اليوم أناجي ربي، وأراجع نفسي في صحة قراري، وهل فشلت في أول قراراتي في العمل المدني؟

ومع أذان الظهر انطلق صوت سرينة المطافئ في أرجاء الأقصر؛ فقد شب حريق كبير في باخرة رجل الأعمال والمنتج السينمائي، وغرقت بالكامل، فى أثناء عملية الإطفاء، بسبب عدم صلاحية الطلمبات بها، كما ورد بالتقرير … وكانت الراحلة فايدة كامل، رئيس لجنة السياحة والثقافة بمجلس الشعب، حينئذ، موجودة بالأقصر، وشاهدت، من مكتب المحافظ، لحظات اشتعال الفندق العائم وغرقه في مياه النيل … وحمدت الله الذي أعانني على تنفيذ قراري، فجعلني سبباً في إنقاذ المئات من كارثة محققة … وسجدت شكراً لله على عدالته الناجزة التي تنزلت من السماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى