الأهرامفي الأوبـــرامقالات صحفية

جنرال في الأوبرا … (2)

تابعت معكم، في مقالي، الأسبوع الماضي، كيف كان أول أهدافي، بوصولي إلى دار الأوبرا، هو أن أحطم أسوارها، ليصبح هذا المركز الثقافي القومي، ملكاً لكل المصريين.

وبعد نجاح حضور 400 طالب، يومياً، من جامعة القاهرة، للحفلات المسائية لدار الأوبرا المصرية، بمختلف أنواع أنشطتها، بدأت في التفكير بالخروج بالأوبرا نفسها إلى الأقاليم المصرية، على أن تكون البداية في المحافظات التي يوجد بها جامعات. وبدأت في الإعداد لهذه الحملة الثقافية، لتكون شاملة، ولتتماشى مع فكر المركز الثقافي القومي المصري، فقررت أن تتكون من عدة فقرات، من أجل جذب الشباب في تلك الجامعات. فكانت الفقرة السياسية، والتي زاملني فيها، صديقي المفكر الدكتور مصطفى الفقي، الذي جال معنا في معظم محافظات مصر، وجامعاتها، يحاور الشباب في مجالات السياسة وعن تجاربه الشخصية فيها، ويستمع إليهم ويتناقش معهم فيها.

تليها الفقرة الفنية، والتي حرصت فيها على اختيار فنانين ممن لهم مكانة فنية، وأدبية متميزة بين الشباب؛ ليتحاورا معهم ويشاركوهم تجاربهم، وكان هدفي من ذلك جذب الجمهور لحضور الفاعليات والمشاركة فيها. وطرحت الفكرة على الراحلة العظيمة، فاتن حمامة، والتي رحبت بها بشدة، وشاركت معنا في تلك الحملة، معطية، للشباب، العديد من الدروس في الانتماء، والإخلاص للوطن، وللرسالة الفنية. كما انضم إلينا، كذلك، الفنان الراحل نور الشريف، ذو الشعبية الجارفة، خاصة وأنه كان قد أنهى لتوه، مسلسله الشهير “عائلة الحاج متولي”. وشاركنا، كذلك، أصدقائي الأعزاء، الفنان يحيى الفخراني، والفنان عزت العلايلي، وعمدة ليالي الحلمية، الفنان صلاح السعدني، بالإضافة لأكثر من عشرين فناناً، من رموز مصر الفنية.

يلي كل ذلك، الفقرة الثالثة، وكانت عبارة عن مقتطفات من دار الأوبرا المصرية، من الأوركسترا السيمفوني، والغناء الأوبرالي، والبالية، وكانت اختيارات الفقرات الفنية بسيطة، بهدف الوصول إلى عقل الشاب المصري، الذي يستمع لهذه الأنواع من الفنون لأول مرة. واعتمدت على ما للفنان حسن كامي من شعبية وحضور، فلاقى استحسان الجميع وهو يغني أوبرا نابوليتان الشهيرة، وبدأ الشباب يتعرف على هذا النوع من الفنون، بل ويتذوقه. كما تضمنت هذه الفقرة فرعاً آخر من فروع الفنون، وهي معارض اللوحات والرسومات، في ثلاث قاعات كبرى بدار الأوبرا، لعرض لوحات مختلف الفنانيين؛ وشرفنا فيها الفنان عمرو فهمي، بمعرضه من اللوحات الكاريكاتيرية، التي كان ينتقد فيها الحكومة، رئيسها ووزراءها.

فكان لنا، في كل جامعة، مظاهرة فنية … ندخلها صباحاً، ومعنا هذه الحشود المتميزة من رموز الفكر، والثقافة، والفن، لنبدأ بالفقرة السياسية، ثم الفقرات الفنية، يليها معارض الرسومات واللوحات. وفي المساء كنا نبني مسرحاً كاملاً، بجميع تجهيزاته من الصوت والإضاءة، ليشدو عليه بعض فنانو الأوبرا، في الجزء الأول من الحفل، ومنهم على سبيل المثال، الفنان القدير محمد ثروت. ولقد انضم لنا، في هذه الحفلات، “الكينج” محمد منير، والذي أقمت له أولى حفلاته في الأوبرا … أقمتها في المسرح المكشوف، ووصل عدد الحضور فيها إلى ثلاثين ألف ضيف، معظمهم، إن لم يكن جميعهم، من الشباب … وسأسرد تفاصيلها في مقال لاحق. وبما أننا في وسط شباب الجامعة، فكان الجزء الثاني، من الحفل، يخصص للفقرات الشبابية، والتي عملت فيها على اختيار الفرق الجديدة من شباب مصر. وكنت في بعض الأحيان، أشرك بعض الفنانين، أو الهواة، من أبناء المحافظة التي نزورها في الاحتفال، وأذكر أنني عدت من احتفالي بورسعيد والمنوفية، بأصوات جديدة، انضمت إلى دار الأوبرا،ولمعت أسماءهم فيما بعد.

أذكر جيداً، يوم زيارتنا لجامعة جنوب الوادي في محافظة قنا، والتي كان محافظها، آنذاك، صديقي العزيز، اللواء عادل لبيب، أذكر أن المحافظة، بأكملها، عاشت يوم فرح وعرس، وظل أهلها ساهرون، حتى الصباح، يستمتعون بالفقرات المتنوعة، على شاشات العرض الكبيرة، التي وضعناها خارج المسارح، لاستيعاب عدد أكبر من الضيوف. ونظراً للإقبال الشديد من أهالي محافظة قنا، ونزولاً على رغبتهم، فقد كررنا الزيارة مرة أخرى، وأقمنا حفلين في ليلة واحدة، الأول في فناء الجامعة في الصباح، وما أن ينتهي، حتى ننتقل سريعاً إلى مسرح مدينة قنا، ليبدأ الحفل المسائي. وتكرر هذا المشهد في  كل جامعات مصر … الزقازيق، والإسماعيلية، وبورسعيد، والإسكندرية، وأسيوط، والفيوم، والمنوفية، وغيرهم … وكانت مشاركة الفنانين الكبار، يضيف على هذه الاحتفالات بريقاً خاصاً. وبدأ المواطن عامة، والشباب خاصة، يستشعروا دور دار الأوبرا المصرية، ويتابعون جدولها، ويتواجدون في فاعلياتها.

ولأنني أؤمن بالمثل الإنجليزي The first impression is the last impression، بمعنى أن الانطباعات الأولى تدوم للنهاية، فقد حرصت أن تكون بداية هذه الجولات، بمشاركة سيدة الشاشة العربية، الفنانة الراحلة، فاتن حمامة، التي خرجت المدينة بأكملها لاستقبالها. وبالرغم من قلقها من نجاح التجربة، في البداية، إلا أنها، وبعد انتهاء فقرتها في الصباح، وما شهدته من حب وترحيب وإقبال، قررت أن تبقى معنا لحضور الحفل المسائي، عكس ما كان متفق عليه من أن تغادر بعد الانتهاء من فقرتها، قائلة لي “إن هذا اليوم من أسعد أيام حياتي”.

وفي تقديري، أن أكبر مكاسب هذه الجولات الفنية، كان في سعادة أهل الصعيد بها، وشعورهم باهتمام الدولة بهم، فقد رأيت الفرحة في عيون أبناء أسوان، على سبيل المثال، وهم يرون الفنانين بينهم، جاءوا خصيصاً للاحتفال معهم. ومع نجاح هذه الجولات الفنية، أصبح الفنانون يتسابقون للمشاركة فيها. وأعتقد أن هذه التجربة، كانت من أهم نجاحات دار الأوبرا المصرية، ومن أهم إنجازاتها لشعب مصر العظيم.

أما التجربة الأخرى … فلقد تعلمتها في أوبرا فيينا، عندما زرتها لأتعرف على المسرح من الداخل، وأسلوب عمله، وإدارته … فرأيت طلبة المدارس الثانوية، يحضرون بروفات الأوركسترا السيمفوني، مجاناً، وذلك، بالطبع، بهدف غرس، وإرساء ثقافة الفن الكلاسيكي في الأجيال القادمة، وما لذلك من أثر كبير في رقي الشعوب. فعدت إلى دار الأوبرا المصرية، ونفذت هذه الفكرة، وشهدت نجاحاً كبيراً، إلا أن الاستفادة منهااقتصرت،للأسف، على طلبة المدارس الخاصة، القادرة على توفير وسائل انتقال لطلابها!

إن مصر لديها الكثير لتقدمه لأبنائها وشبابها، أجيال المستقبل، وأمل مصر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى