الأهرامفي الأقصـــرمقالات صحفية

من تركيا إلى الأقصر

عندما عُينت ملحقا عسكريا لمصر فى تركيا، فى عام 1990، قضيت مدة ثلاث سنوات فى العاصمة أنقرة، حيث مقر جميع البعثات الدبلوماسية. والحقيقة أن أنقرة تعتبر عاصمة حديثة، نسبياً، لتركيا، إذ تم اختيارها كعاصمة فى أواخر عام 1923، للابتعاد عن زحام العاصمة القديمة، إسطنبول، التى صارت منذ ذلك الحين، العاصمة التاريخية لتركيا، وصارت أنقرة هى العاصمة الرسمية، التى توجد بها أدوات الحكم، بدءا من رئاسة الجمهورية، فى منطقة شنكايا، مرورا بالبرلمان، ومجلس الوزراء، ومقار السفارات الأجنبية، وضريح كمال الدين أتاتورك، مؤسس الدولة التركية.

كانت أنقرة، كعاصمة، منطقة فقيرة، بالنسبة لباقى المدن التركية، فعلى سبيل المثال، لا الحصر، لم يكن بها سوى فندقين كبيرين، فقط، خلال فترة وجودى بها، مما كان يدفع جميع سكانها، وقاطنيها، للتوجه إلى ساحل أنطاليا، فور بدء عطلة نهاية الأسبوع، باعتباره أهم المناطق على ساحل البحر المتوسط، الذى يُطلق عليه عروس السواحل التركية. تُعد أنطاليا أكثر المدن التركية استقطابا للسياح، إذ تستقبل أكثر من 18 مليون سائح سنوياً، فى منتجعاتها. يبلغ الطريق من أنقرة حتى ساحل أنطاليا نحو 200 كم، يشبه فى روعته تلك الطرق التى نفذتها مصر أخيرا، ضمن الشبكة القومية للطرق، وهو ما ييسر، الفرصة لجميع سكان أنقرة، لزيارة سواحل أنطاليا، كل أسبوع، فيما يشبه الزيارات الأسبوعية للساحل الشمالى فى مصر، خلال أشهر الصيف، بالرغم من أن الساحل الشمالى المصرى يمتلك مقومات أروع وأجمل من الساحل التركي، والذى بالرغم من طوله، فإن جميع منتجعاته السياحية تعتمد على حمامات السباحة، نظراً لوقوعها على منحدرات ساحلية، وسواد مياهها، ووعورة شواطئها الصخرية، التى لا تقارن بالشواطئ الرملية البيضاء فى السواحل المصرية، ولا بصفاء المياه الفيروزية بها.

ولكن نقول إيه… مياه رائعة، وسواحل ممتدة، ليس لها مثيل فى البحر المتوسط، ولكنها عبارة عن كتل خرسانية، اصطفت بجوار بعضها البعض، لتُستغل لمدة لا تزيد على أربعة أسابيع، فى المتوسط، كل عام، وتغلق بقية شهور السنة، وكأنها مدينة أشباح، بالرغم من مقابلتها للسواحل التركية، التى تُمثل ثلث الدخل القومى لتركيا، نظراً لوضع خطة مسبقة، لحسن استغلال تلك السواحل، ورعايتها، وتنظيم عمل المنتجعات بها.

وضمن خطة تركيا، للتنوع السياحي، فقد اهتمت بمدينة مرمريز، والتى تشبه مدينة شرم الشيخ، تماماً، وتعتبر المقر الصيفى لرجال الحكم فى تركيا. أما المدينة التى لفتت انتباهى بشدة، فكانت مدينة بودرم، على ساحل أنطاليا، والتى تم تجديدها بأكملها، بطلاء جميع منازلها باللون الأبيض، وجميع نوافذها باللون الأزرق، لتمتزج جميعها بخلفية البحر، مع الزراعات الخضراء المحيطة بها، فتجد نفسك أمام لوحة فنية جميلة. وعندما تتجول فى شوارع المدينة النظيفة، بالرغم من ضيقها، ترى فى آخرها قلعة كبيرة، تشبه إلى حد كبير، قلعة قايتباى بالإسكندرية، وقد أضيئت بألوان مبهجة، تنعكس على مياه البحر، وتتحول تلك القلعة، كل مساء، إلى أروع ملهى فى البحر المتوسط، حيث تجد جميع أنواع الأطعمة، التى تناسب مختلف جنسيات السياح. وقد علمت أن تلك القلعة تُصبغ فى كل يوم من أيام الأسبوع بصبغة جديدة، معبرة عن مختلف الجنسيات، فتجدها تُغير ديكوراتها، وموسيقاها، وأطعمتها يومياً، وفقاً للجنسية المقررة لذلك اليوم، فيقضى السياح أجمل الأوقات بها، مع أصوات الأمواج ونسمات البحر الأبيض المتوسط.

ظلت صورة مدينة بودرم بألوانها الموحدة، وجمالها، عالقة بذاكرتي، إلى أن تم تعيينى محافظاً للأقصر، فقررت حينها أن يكون للمدينة لون موحد، يتناسب مع عراقتها وتاريخها، ويبرز جمالها، فاستعرت اللون الذى اقترحه عليّ الوزير الفنان فاروق حسني، عند ترميم أوبرا الاسكندرية، أيام رئاستى للأوبرا المصرية، وهو مزيج من الرمادى الفاتح والبيج، أطلق عليه فاروق حسنى اسم «جريج». وبالفعل بدأت التجربة فى شارع التليفزيون، أكبر وأهم شوارع الأقصر، فقمت بدهان جميع منازله بهذا اللون، واخترت اللون العسلى للنوافذ، فظهر الشارع بمظهر يليق بمدينة تاريخية كالأقصر. ثم عممت التجربة على باقى شوارع الأقصر، وكانت النتيجة رائعة، بل أصدرت الأوامر باعتبار تلك التوليفة من الألوان، هى اللون الرسمى لأى بناء جديد فى الأقصر، ولا يتم ترفيقه بالماء والكهرباء، إلا بعد شهادة معتمدة من وزارة الإسكان أو المحافظة، بأن المبنى مطابق للمواصفات المتفق عليها.

واليوم، عزيزى القارئ، لو أنك ذهبت إلى مدينة الأقصر، وتجولت فى شوارعها، ستجد كل مبانيها وقد توحد لونها، بما يبرز جمال تلك المدينة العريقة، وهو ما كان ضمن خطة شاملة لتطوير الأقصر، والتى شملت أكثر من 42 مشروعا، تم تنفيذها خلال ثلاث سنوات، كانت تهدف جميعها لتحقيق جميع متطلبات المواطن الأقصري، وتدعيم كل أوجه النشاط السياحي، والحفاظ على الآثار، وتنمية المناطق الأثرية، مع فتح آفاق جديده للاستثمارات. وكنتيجة لتنفيذ هذه الخطة، حصلت الأقصر على المركز الثانى فى مسابقة أجمل المدن والعواصم الإسلامية، بعد المدينة المنورة، وهذا ماتستحقه عاصمة الثقافة التى تحتوى على ثلث آثار العالم … إنها الأقصر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى