الأهرامفي الأقصـــرمقالات صحفية

الضربات دائما ما تأتى من الداخل

عُينت رئيسا للمجلس الأعلى لمدينة الأقصر، في 2004، قبل تحويلها، لاحقا، إلى محافظة، بقرار جمهوري في 2009، وفور وصولي إليها بدأت جولاتي الميدانية، للتعرف على المدينة وأوضاعها. فكان معبد الكرنك، وجهتي الأولى، لمكانته الرفيعة كأكبر أثر في العالم كله، يتكون من 6 معابد على مساحة 200 فدان، ويغطي فترات زمنية ممتدة، هي عصر الفراعنة بالكامل، إذ كان المعبد بيتا للإله آمون، أو الرب، عند قدماء المصريين. وكان كل فرعون يعتلي عرش مصر، يكتب، على جدران معبد الكرنك، تاريخه، وإنجازات عصره. فترى، وأنت تسير بين جنبات المعبد، تاريخ مصر، على مدي 4000 عام، مدونا على جدرانه. وينتهي المعبد بالبحيرة المقدسة.

عندما وصلت، لساحة المعبد، هالني ما رأيت؛ العشوائيات تسيطر على المشهد … عمارات سكنية من ثلاثة أدوار أمام المعبد، البارزات، مواقف عربات الحنطور، والأتوبيسات، ومبنى بالطوب اللبني، عند المدخل، مباشرة، يسمى بيت لوجران، نسبة إلى الأثري الفرنسي، الذي بناه منذ مائة عام، عندما بدأت البعثات الفرنسية أعمال الترميم. وراء كل هذا، اختفى جمال معبد الكرنك … باختصار رأيت عارا على جبين مصر.

كان معدل الزائرين من السياح يتراوح بين 6000 إلى 8000 سائح يوميا، بمن فيهم سياح اليوم الواحد، القادمون من الغردقة لقضاء يومهم بالأقصر، والعودة في المساء. فكان اهتمامي الأول في خطة تطوير الأقصر، هو ساحة معبد الكرنك. واقترح أحد كبار المسئولين، حينئذ، أن يتم طرح ذلك المشروع على بيوت خبرة أجنبية، من خلال مسابقة عالمية، معللا ذلك بأهمية أن نرى المعبد بعيون أجنبية، في حين رأيت ضرورة إتاحة الفرصة للفكر المصري، خاصة أن طرح مثل تلك المسابقة سيتطلب عاما كاملا، لتجهيز أوراقها، ثم طرحها، وأخيرا البت فيها.

وبدأت اجتماعاتي مع الدكتور المهندس أيمن عاشور، استشاري تطوير الأقصر، لوضع التصور المناسب لتطوير الساحة، فوافقني في فكرتي لإعادة الساحة لما كانت عليه منذ 4 آلاف عام، عندما كان الفرعون يقف أمام المعبد، يقابله على الضفة الأخرى، في البر الغربي، الرامسيوم، أو الدير البحري. إلا أنه علق بأن تنفيذ تلك الفكرة يتطلب إزالة جميع المبانى والبازارات العشوائية المحيطة بالمعبد، فأكدت له مسئوليتي عن تنفيذ ما يلزم لإعادة هذا الصرح العالمي إلى مكانته.

في غضون ثلاثة أسابيع انتهى الدكتور أيمن عاشور، من وضع خطة تطوير ساحة معبد الكرنك، وتم عرضها على لجنة تطوير الأقصر، برئاسة رئيس مجلس الوزراء، حينئذ، الدكتور أحمد نظيف. وافقت اللجنة على المشروع، وعلى الفور، وفرت الوزيرة النشيطة فايزة أبو النجا، وزيرة التعاون الدولي، آنذاك، التمويل اللازم لبدء التنفيذ. وهنا بدأت الحرب، التي لم أكن أتوقعها!

امتدت هذه الحرب إلى اليونسكو، من خلال برقيات استغاثة، مطالبة اليونسكو بالتدخل لإيقاف هذا المشروع، واشتدت الضربات، عندما أصدر اليونسكو قرارا بضرورة إيقاف تطوير ساحة الكرنك، وإلا تعرضت مصر إلى عقوبات من اليونسكو، مثل الشطب من سجلات التراث العالمي.

وأمام ذلك الضغط، توقف العمل، بالفعل، وقامت منظمة اليونسكو بإرسال لجنة مكونة من خبيرين، أحدهما بريطاني، والآخر إيطالي. وما أن وصل أعضاء اللجنة، حتى عرضت عليهما خطة التطوير بالكامل، واصطحبتهما في زيارة للموقع. وانتهزت الفرصة، وعرضت عليهما، خطة نقل سكان القرنة، الموجودين فوق 195 مقبرة فرعونية، بهدف إعادة فتح طريق الكباش.

لم يكن لدي شك من سلامة هدفي، ولم أتشكك لحظة في موافقة اليونسكو عليه، بعد الاطلاع على الحقيقة، ولكنني لم أتوقع، أن أتسلم موافقتهم، قبل أن تغادر لجنتهم الأقصر. تسلمت تقريرا رسميا، بالموافقة على خطة تطوير ساحة الكرنك المصرية، ونقل سكان القرنة، وإعادة فتح طريق الكباش.

واستأنفنا العمل، فورا، في صباح اليوم الثاني، وسط صدمة أعضاء البعثة الفرنسية، من ناحية، الذين لم يتوقعوا مغادرة مقرهم في أجمل بقاع الأقصر. ووسط إحباط بعض المجموعات من الأثريين المصريين، من ناحية أخرى، ممن كان لهم أهداف شخصية واضحة، أو كانوا مهملين في عملهم، على أقل تقدير. فعلى سبيل المثال، كنا نرى مياه البحيرة المقدسة خضراء، راكدة، يعلوها العفن، وعندما سألت، كنت أسمع المبررات، مثل انخفاض منسوب مياه الفيضان .. إلخ. إلا أنه مع بدء التطوير، اكتشفنا أن ماسورة المياه المسئولة عن طرد مياه البحيرة الملوثة، مكسورة منذ سنوات، وكان يلزم تغييرها لتعود مياه البحيرة المقدسة إلى نقائها التي نراها عليه اليوم. وبإزالة بيت لوجران، أمام المعبد، اكتشفنا أسفله الديكوفيلد والجرار، المصنوعين منذ أكثر من 70 عاماً، وغيرهما من الآلات، التي تم نقلها، حينئذ، للعرض بمتحف الكرنك. وبعد نقل مقر البعثة الفرنسية، تم إنشاء أكبر مركز زوار في العالم، مزود بشاشات عرض، ومتحف، ودورات مياه على أعلى مستوى، ونحت مجسم للمعبد، وصور لمراحل الترميم، إضافة إلى ساحات انتظار للحافلات السياحية، والحنطور، فضلا عن المطاعم الجانبية، لخدمة الزائرين. كما تم تطوير البازارات لتناسب الشكل الحضاري للمنطقة، واستلم كل مالكي البازارات القديمة، أماكنهم الجديدة، دون أن يضار فرد، ودونما تفريط في حق الدولة.

وبعد إزالة كل هذه العشوائيات تم اكتشاف أول ميناء في التاريخ، وهو ميناء لنقل الأحجار، كان يستخدم لبناء المعبد. وكانت المفاجأة الثانية، هي اكتشاف حمامات العصر الروماني كاملة، بالفسيفساء بنفس الألوان، منذ آلاف السنين، والتي كان الرومان يستخدمونها للتطهير والاغتسال قبل زيارة بيت الإله آمون.

بعد افتتاح الرئيس الأسبق، حسني مبارك، لساحة الكرنك، بعد تطويرها، أعلنت اليونسكو عن المسابقة السنوية لأعمال التطوير في المناطق الأثرية، وفاز مشروع تطوير ساحة الكرنك بالجائزة الأولى، التي تسلمتها خلال مؤتمرهم السنوي الذي عقد، حينها، في البرازيل.

بعد كل ذلك أقول شكرا للدكتور أيمن عاشور، عميد كلية الهندسة بجامعة عين شمس، على ذلك الأداء والفكر ودائما نقول، مصر والله عظيمة بأولادها المخلصين … رغم أي ضربات تأتي من الداخل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى