القوات المسلحة وإنتصارات أكتوبرمجلة أكتوبرمقالات صحفية

حرب أكتوبر… ومجلة أكتوبر

تمر الأيام والسنوات في حياة الأمم … ويبقى في ذاكرتها أحداث كبيرة … وعظيمة، يتباهى بها الوطن … وأبناؤه … على مر التاريخ.

كانت حرب أكتوبر 73، من دواعي فخر أمتنا، في العصر الحديث … والتي ستظل علامة بارزة في تاريخ مصر … والأمة العربية.فبمجرد ذكر حرب أكتوبر … تتداعى للذاكرة أعظم اللحظات في تاريخ مصر الحديث … ومن هنا جاء اسم “مجلة أكتوبر” … لتخلد هذا الحدث العظيم … وليكون اسمها مرتبطاً بنصر الأمة المصرية … وهو ذكاء يحسب للمجلة الغراء، بأن تتخذ اسم “أكتوبر” رمزاً لها.

لم تكن حرب أكتوبر 73 انتصاراً عسكرياً للقوات المسلحة المصرية، فحسب، بل كانت مصدراً لإلهام العسكرية حول العالم، بعقيدتيها الشرقية والغربية. فقد كان تفوق القوات المسلحة المصرية، سبباً في تغيير العديد من مفاهيم القتال في العقيدة القتالية الغربية، إذ استفادت جميع المعاهد العسكرية حول العالم، من خبرة قتال المصريين في حرب أكتوبر،وخاصة ذات العقيدة الغربية منها، واعتبرت الدروس المستفادة من حرب أكتوبر 73، جزءاً لا يتجزأ من مناهجها الدراسية في دورات قادة السرايا، والكتائب، والألوية، وكلية أركان حرب، وكلية الدفاع الوطني.

وجاءت بشائر تأثيرات التغيير أثناء حرب الاستنزاف المصرية، وذلك بعد إغراق المدمرة الإسرائيلية “إيلات” … حيث بدأت القوات البحرية، في كافة الدول، في التوقف، تدريجياً، عن بناء المدمرات الكبيرة … وحاملات الطائرات … والطرادات، وبدأ الاعتماد على اللنشات السريعة … الصغيرة … ذات السلاح المتطور، لتأمين السواحل، والمياه الإقليمية. وأصبحت اللنشات الصاروخية،هي القوة الضاربة للقوات البحرية، في معظم الدول الغربية،وخاصة في أعمال تأمين القطع البحرية الكبيرة. وهكذا،ومع انتهاء حرب أكتوبر 1973، قامت الدول الغربية بإعادة تنظيم وتسليح قواتها البحرية، إنطلاقاً من الفكر الجديد،المعتمد على الخبرة والتجربة المصرية.

أما المفهوم الثاني في تغيير المفاهيم القتالية، فكان في مجال القوات الجوية، حيث أنه طبقاً لمفاهيم مبادئ القتال،فإن عمل القوات الجوية كان يعتمد من قبل على عنصرين هما “السيادة الجوية”Air Supremacy، بمعنىأن القوات الجوية تسيطر على ميدان القتال الجوي بالكامل، ولا تسمح للقوات الجوية المعادية بأي نشاط. والعنصر الثاني كان “السيطرة الجوية”Air Superiority، وهذه السيطرة تكون على ميدان القتال بالكامل، أو على جزء منه، أو لوقت محدد، وفيها يمكن أن تنشط القوات الجوية المعادية بتنفيذ بعض الأعمال. وخلال حرب أكتوبر، أضافت القوات المسلحة المصرية عنصراً ثالثاً،فيمفاهيمأسلوب استخدام القوات الجوية، وهو “تحييد القوات الجوية المعادية”Neutralizing Enemy Air Force، وهذا المفهوم الجديد، يعني أنه بالرغم من أن القوات المعادية، لديها قوات جوية … قوية … ذات كفاءة عالية … وبأعداد كبيرة، تحقق لها السيطرة الجوية … إلا أنها لا تستطيع المشاركة في ميدان القتال.

وامتدت التأثيرات إلى مفهوم ثالث، وهو إمكانية قتال عناصر المشاة المترجلة، دون قوة الصدم (الدبابات). فقد كان المفهوم قبل حرب أكتوبر 73، أن قوات المشاة لا يمكنها التمسك بالأرض، منفردة، دون قوات مدرعة لأكثر من 3-4 ساعات؛ فجاء التخطيط الرائع، الذي وضعه المصريون، في التوجيه رقم 41، الذي تم إعداده بمعرفة لجنة رأسها الفريق/ سعد الشاذلي-رئيس الأركان،ليتيح العبورلقوات المشاة، بدون دعم، لمدة 12 ساعة، هي مدة إتمام إنشاء الكباري، وعبور الدبابات. وهو ما تم التخطيط له باستخدام الأسلحة المضادة للدبابات، وبحسابات دقيقة للموجات الأولى من المشاة المترجلة، فتمكنت من صد، وتدمير الاحتياطيات المدرعة الإسرائيلية شرق القناة في “خط بارليف”. وهذا مفهوم، لم يكن لأي مخطط عسكري أن يقبل به، قبل حرب أكتوبر 1973.

أما المفهوم الرابع، فكان “الحصار البحري عن بُعد”Distant Naval Blockade، حيث أشارت المراجع العسكرية الغربية، إلى أن المصريين نجحوا في غلق مضيق باب المندب أمام الملاحة الإسرائيلية … فيما يعد أكبر مفاجأة من مفاجآت حرب أكتوبر … حيث استخدم المصريون قواتهم البحرية في باب المندب، بعيداً عن القوات الجوية لجيش الدفاع الإسرائيلي. وبذلك أظهر المصريون براعتهم في إغلاق الملاحة،بإعلان تواجد قواتهم البحرية في مضيق باب المندب، ليقف الإسرائيليون عاجزون، طيلة أيام القتال، عن أي رد فعل ضد هذا العمل، وظل ميناء إيلات مغلقاً تماماً. وهكذا، ولأول مرة،بعد حرب أكتوبر،يظهر في قوانين القتال البحرية، في العقيدة الغربية، ذلك الفكر الجديد … بعنوان “الحصار البحري عن بُعد” Distant Naval Blockade.

وتمثلالمفهوم الخامس في عنصر المفاجأة … الذي يعدواحداً منأهم مبادئ القتال، في جميع العقائد القتالية الغربية. فقبل حرب أكتوبر 1973، كانت كل المراجع العسكرية تشكك في إمكانية تحقيق المفاجأة بكامل أبعادها … المفاجأة الاستراتيجية، أو المفاجأة التعبوية، أو حتى المفاجأة التكتيكية، في ظل التقنيات الحديثة … ووسائل الاستطلاع والكشف المبكر … والأقمار الصناعية. ولكن جاءت حرب أكتوبر، لتحطم كل هذه الافكار والمفاهيم، إذنجح المصريون في حرب أكتوبر 1973، من مفاجأة الإسرائيليين بالحرب على خط المواجهة بالكامل، وبعد اختيار منتصف النهار لبدء الهجوم،مما جعل من الصعب على العدو تحديد اتجاه الهجوم الرئيسي،خاصة أن كل المراجع وقوانين القتال، كانت تؤكد على أن أنسب توقيتات الهجوم يكون معأول ضوء، أو آخر ضوء، وهذا ما حقق به المصريين المفاجأة مرة أخرى. فضلاً عن إجراءات المصريين الأخرى، مثل فتح باب العمرة للضباط قبل الحرب، وتسريح دفعات من الاحتياط، وغيرها،والتي كانت، كلها، من أعمال الخداع التي حققت المفاجأة.

أما المفهوم السادس، فتمثل في التأكيد على بعض مفاهيم القتال في العقيدة الغربية، والتأكيد على صلاحيتها للتطبيق.فقد تم التركيز على مفهومBy-Pass Policy، وهي أحد أساليب الاختراق في العقيدة القتالية الغربية، والتي تتلخص في أنه خلال العمليات البرية، وفي حالة التوقف أمام أي دفعات لمدة طويلة، فإن القوة البرية لا تتوقف … بل تستمر … تاركة خلفها قوات لتثبيتها حتى تسقط، وتستمر باقي القوات في الهجوم. وهو ما فعله المصريون في حرب 1973، عند اقتحام خط بارليف … فلقد اندفعت فرق المشاة المصريةالخمس، لعبور القناة، متقدمة إلى عمق سيناء، تاركة وراءها نقاط خط بارليف، تتساقط تباعاً.

أما المفهومالسابع، فكان إضافة جديدة لمبادئ القتال في العقيدة الغربية، وهو “النوعية”، حيث كان الاتجاه في مقارنة القوات قبل حرب أكتوبر،يعتمد على أعداد الدبابات، والمدفعية، والطائرات، والغواصات، والمدمرات.

وجاءت حرب أكتوبر … وظهر عامل جديد، لم يكن في الحسابات قبلها … وهو الجندي المصري، الذي قال عنه شارون، في مناظرة عن حرب أكتوبر، أجراها معي شخصياً، وأذاعها التليفزيون البريطاني … فعند سؤال الجنرال شارون عن وجهة نظره، فيما يراه المفاجأة في حرب أكتوبر، هل كان توقيت الهجوم في الثانية ظهراَ؟. هل كان اختيار موعد الهجوم،وهو عيد الغفران في إسرائيل؟ هل كان الهجوم على الجبهتين المصرية والسورية في وقت واحد؟ …هل … هل …؟؟فجاءت إجابته أن المفاجأة الحقيقية، في حرب أكتوبر، كانت الجندي المصري في عام 1973، الذي اختلف عن الجندي في عام 1967،أو عام 1956! فالجندي المصري عام 1973 كان من المؤهلات العليا (حاملي البكالوريوس) … وروحه المعنوية عظيمة،وهو ما اعتبره أقوى من حساباتهم وتوقيتاتهم. وأضاف شارون … “أن هذا الجندي الذي قابلته في حرب 1973 … ليس الجندي المصري … الذي قاتلته في حربي 1967وفي1956. وعليه، فإن مفاجأة هذه الحرب هي … الجندي المصري … وليس غيره”. مضيفاً”أنه يجب على إسرائيل أن تضع في اعتبارها في أي حرب قادمة … نوعية هذا الجندي المصري الجديد”.

سيذكر التاريخ، أن ما حققه الجندي المصري في حرب أكتوبر 73، هو معجزة حقيقية، فاقت كل الحدود والتصورات، وأضافت للعلوم العسكرية، في كل المؤسسات التعليمية حول العالم، أسس ومبادئ ومفاهيم جديدة، كان من شأنها تغيير أساليب القتال التي كانت متبعة قبل حرب أكتوبر 73.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى