الأهراممقالات صحفية

أعياد… أعياد… أعياد

يهل علينا بعد أيام عيد الفطر المبارك، أعاده الله علينا جميعاً بالخير والبركات، ومع كل عيد تتداعى إلينا ذكرياته السابقة، والتي يعد أجملها في حياتي، من مدينتي الجميلة بورسعيد، وأنا طفل صغير، عندما كنا نبدأ الاحتفال من ليلة العيد، بترتيب “ملابس العيد”، الجديدة، من القمصان، والسراويل، والأحذية، والجوارب، قبل أن ننهي الليلة بالاستحمام، استعداداً لاستقبال العيد في الصباح، الذي كنا نبكر فيه، على صوت تكبيرات العيد، تنطلق من جميع المساجد، فنسرع لارتداء ملابسنا الجديدة، ونتوجه مع والدي، رحمة الله عليه، إلى مسجد لطفي، حيث يتجمع الكثير من أبناء بورسعيد، أباءً وأبناءً، وحليهم الجديدة، المعطرة. فندخل المسجد، ونقسم أنفسنا إلى قسمين، لنتبادل، جميعاً، ترديد التكبيرات، حتى يحين موعد الصلاة، فنأتم بإمام المسجد، وفور الانتهاء من الصلاة، نصافح بعضنا مهللين، وكأنها إعلان رسمي ببدء العيد، فنخرج منها إلى ساحة المسجد، لترى العائلات البورسعيدية مستعدة بصواني الكحك، وأكواب الشاي، لنتناولها سوياً.

ودون سابق اتفاق، وبناءً على العادات الموروثة، يتوجه أهالي بورسعيد، لمنطقة المقابر، لزيارة من فقدوهم، وكأنهم يؤكدون على وجودهم معهم في الأعياد، فكنا نزور مدفن جدي، حاملين إليه الزهور، وسعف النخيل، ونقرأ الفاتحة على روحه، قبل أن ننطلق إلى منزل جدتي، في شارع الثلاثيني، فنجدها قد أعدت لنا أشهى إفطار، انتظاراً لتجمع كل أفراد العائلة، وأسرهم. ما أن نفرغ من الإفطار، حتى تحين اللحظة الأكثر إثارة، لكل أطفال العائلة، وهي توزيع العيدية، التي نحلم بها، ونخطط لإنفاقها طوال شهر رمضان، ثم تبدأ مراسم اللهو، فهناك من يذهب إلى شاطئ البحر لركوب الخيل، وهناك من يذهب إلى “حارة العيد”، وهي منطقة ملاهي متواضعة، ومنا من يستأجر الدراجات المزينة ليجوب أركان المدينة، ثم نذهب إلى السينما، للاستمتاع بأحدث الأفلام … وهكذا كانت الأعياد في فترة الطفولة.

ومرت السنوات، والتحقت بالكلية الحربية، وتخرجت ضابطاً بالقوات المسلحة المصرية، وسافرت إلى اليمن، مباشرة، للاشتراك في حربها، لمدة ثلاث سنوات متتالية، تعاقبت عليّ الأعياد فوق قمم جبالها، وعلى سفوح وديانها، أصلي العيد مع جنودي، والراديو وسيلتنا، الوحيدة، للاستمتاع بصوت تكبيرات العيد من مصر، ولا مظاهر أخرى لبهجة العيد ونحن بعيدين عن الوطن، والأهل، والأقارب. وعدت من اليمن لأشارك في حرب يونيو 67، التي أنستنا مرارة الهزيمة فيها، حلاوة الأعياد، فقضيت، أولى فترات حرب الاستنزاف، في موقعي على قناة السويس، وكنا نقضي صلاة العيد في حفرة، في الخندق، لنبتعد عن نيران القناصة الإسرائيلية، على خط بارليف.

ثم انتقلنا لمرحلة التدريب على مجري النيل، استعداداً لحرب تحرير سيناء، لنحاكي قناة السويس، وصادف أول أيام التدريبات، ليلة العيد، ونحن على ضفاف أحد فروع النيل، نجهز القوارب المطاطية، لعبور النهر، واقتحام الشاطئ المقابل، الذي يمثل خط بارليف، ومع بزوغ فجر يوم العيد، أصدرت الأوامر لجنودي، لتنفيذ خطة التدريب، بينما ينطلق صوت تكبيرات العيد، من راديو صغير، حملته في جيبي. وواصلنا التقدم استعداداً لصد هجوم العدو الإسرائيلي، طبقاً لخطة التدريب، وفجأة وصل لمقر التدريبات، عدد من العربات الجيب، كان على رأسها الفريق محمد فوزي، وزير الحربية، آنذاك، الذي حضر بنفسه لتفقد سير التدريبات، ومستوى الأداء، والتحقق من فهم كل منا لمهمته، وبعدما تأكد من كل ذلك، قال لنا، “أنا عارف إن النهاردة العيد، لكن عيدنا الحقيقي هو يوم تحرير الأرض، ونصلي العيد فوق أرض سيناء الغالية”.

وتمضي الأيام، وكأن هذا الرجل، رحمه الله، لم يكن، فقط، على يقين بأننا سنستعيد الأرض، بل وأننا سنصلي العيد، القادم، فوق رمال سيناء. كنت أنا ممن وزعوا، خلال مرحلة الاستعدادات لحرب أكتوبر، على هيئة العمليات، في مركز العمليات الرئيسي، فصليت صلاة عيد الفطر في مصلى صغير، في غرفة تحت الأرض، استمعنا فيها لتكبيرات العيد بواسطة الراديو، بعدما نجح رجال سلاح الإشارة في التقاط إشارة الإذاعة من خلال هوائي على السطح. أما زملائي على خط الجبهة، ومنهم اللواء محسن السلاوي، المستشار، الحالي، للسيد رئيس الجمهورية، واللواء كمال عامر، الرئيس، الحالي، للجنة الدفاع والأمن القومي، بالبرلمان، وغيرهم، فقد أدوا صلاة العيد فوق رمال سيناء، ولم تكن سحب الدخان قد انقشعت عن سمائها، ولم تكن رائحة البارود قد زالت من هوائها، ومع ذلك كانت تلك واحدة من أمتع الصلوات التي أدوها، وبها تحققت نبوءة الفريق فوزي، بأننا سنحتفل بالعيد القادم فوق رمال سيناء الحبيبة، فكان أجمل أعياد حياتي.

وبعد النصر العظيم في أكتوبر 73، سافرت مبعوثاً إلى كلية كمبرلي الملكية بإنجلترا، وحل علينا العيد، ولم يكن في المدينة مسجد لنؤدي فيه الصلاة، فاقترح زميلي الكويتي، الضابط عدنان الكويتي، أن نتوجه نحن، مجموعة الضباط المسلمين، السعودي والسوداني والكويتي والمصري، في الفجر إلى لندن، لحضور صلاة العيد، في منطقة كوينز واي، فرحبنا باقتراحه، وتوجهنا بالفعل إلى المركز الإسلامي بها، وأدينا صلاة العيد بالمسجد، ومع ذلك لم أتذوق مثل حلاوة صلاة العيد في مصر، وأصوات التكبيرات تعلو من مساجدها، ومآذنها … عشت يا مصر، وعاشت لنا ذكرياتنا فيكي، وكل عام وحضراتكم بخير.

Email: sfarag.media@outlook.com

لمزيد من المقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى