الأمن القومي والمنطقة العربيةالأهراممقالات صحفية

دوائر الأمن القومي المصري

مع توتر الأحداث في المنطقة، ودخول إيران بشكل مباشر في أعمال التصعيد، أصبح لزاماً علينا دراسة، ورصد، ومتابعة مسار هذه الأحداث في المنطقة، وما لها من تأثير على الأمن القومي المصري.

ولكي نفهم ما يحدث، علينا، أولاً، شرح دوائر الأمن المصري، التي تتحكم في الفكر والقرار المصري على كافة الاتجاهات. وتتكون دوائر الأمن المصري القريبة من خمس دوائر رئيسية، يتحرك فيها المفكر الاستراتيجي المصري، قبل اتخاذ أي قرارات مصيرية.

الدائرة الأولى: وهي الدائرة العربية … فمن المعلوم للجميع، أن مصر هي قلب العالم العربي، وأنه بعد انهيار الأوضاع، مع أحداث “الربيع العربي”، في سوريا واليمن وليبيا، ومن قبلهم العراق، وفقدان هذه الدول لجيوشها القوية، أصبحت مصر، مرة أخرى، محور الأمان للوطن العربي، لقوة جيشها، وحضارة شعبها، الذي لم تؤثر فيه التقلبات التي حدثت بالمنطقة. وجاء إعلان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في شرم الشيخ، بإنشاء القوة العربية الموحدة، لتكون صمام الأمان لباقي الدول العربية في المنطقة.

الدائرة الثانية: وهي الدائرة الأفريقية… وقد شهدت هذه الدائرة فتوراً في التحركات المصرية نحو دول أفريقيا، بعد أن كانت مصر، في عهد الرئيس عبد الناصر، ملجأ لكل حركات التحرر الأفريقية، وداعماً لاقتصادات هذه الدول، وأنشأت منظمة الوحدة الأفريقية. إلا أن غياب الدور المصري عن أفريقيا، خلال فترات سابقة، أدى إلى ابتعاد معظم هذه الدول عن مصر، مما أدى إلى قلة تأثير مصر على الحكومات الأفريقية، وكان أبرز مثال لذلك، متمثلاً في موقف هذه الدول الغير مساند ولا الداعم لمصر في مشكلة سد النهضة مع أثيوبيا. ونحمد الله أن الرئيس السيسي، فور توليه رئاسة الجمهورية، كان أول أعماله حضور مؤتمر القمة الأفريقي، وما تلا ذلك من تكثيف زياراته للسودان وأثيوبيا، فضلاً عن تكليفهلرئيس الوزراءبزيارة الدول الأفريقية. وبدأ عودة الدور المصري، مجدداً، في أفريقيا، لاحتواء هذه الدول. ولا شك أن الفترة القادمة ستشهد المزيد من العلاقات الثنائية مع هذه الدول، خاصة مع طموح مصر في الحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن، ممثلة لأفريقيا، وهو ما يتطلب، بالضرورة، الكثير من التخطيط والتنسيق مع كل الدول الأفريقية وحكوماتها.

الدائرة الثالثة: دائرة حوض نهر النيل … وتعتبر هذه الدائرة، حالياً، من أخطر الدوائر الملتهبة. فنتيجة لإهمال مصر لعلاقاتها مع دول المنبع، وتلاشي دور مصر، تدريجياً، مع هذه الدول، جاءت النتيجة في استغلال أثيوبيا لأحداث ثورة يناير، وما أعقبها من فترة حكم الأخوان، لتبدأ ببناء سد النهضة، وتعطيل المفاوضات، لتكسب أكبر وقت ممكن. ولا شك أن تحرك القيادة السياسية الآن، يسير وفقاً لسيناريوهات معدة. ولقد جاء وعد الرئيس السيسي مطمئناً للمصريين، اثناء الاحتفال ببدء زراعة مليون ونصف فدان في الفرافرة، بأنه لن يفرط في حقوق مصر من مياه النيل.

الدائرة الرابعة: وهي دائرة البحر الأحمر … في الماضي القريب، لم يكن لتلك الدائرة أهمية كبرى، بل كنا ننظر جميعاً إلى البحر الأحمر باعتباره “بحيرة عربية”. في الشمال كانتا مصر والسعودية، وفي الجنوب كل من السودان واليمن والصومال. وكان مضيق باب المندب تحت السيطرة الكاملة لجمهورية اليمن. ومع تدهور الأحداث في الصومال، بدأت أعمال القرصنة من بعض العناصر الصومالية، باعتراض السفن المارة في مضيق باب المندب. ولا نفشي سراً، إذا قلنا أن اللواء/ عمر سليمان قام بالتنسيق مع الدول الأوروبية وأمريكا، لتكوين قوة مشتركة في باب المندب، من خلال القاعدة العسكرية الأمريكية-الفرنسية في جيبوتي. وخلال أشهر قليلة، تم القضاء على القراصنة الصوماليين، وعادت الملاحة إلى طبيعتها في البحر الأحمر. ولم يدم الوضع طويلاً، إذ اندلعت الأحداث في اليمن، وتصاعدت وتيرتها بسيطرة ميليشيات علي عبد الله صالح والحوثيين على عدن، وأجزاء عديدة من اليمن، ووصلت قواتهم إلى جزر باب المندب، وهم ما يعد تهديداً مباشراً للملاحة في البحر الأحمر، وبالتالي في قناة السويس؛ بالرغم من أن تلك الميليشيات لم تتدخل لمنع أو تعطيل الملاحة في البحر الأحمر، خوفاً من تطور الصراع، ودخول مصر فيه بشكل مباشر. وأخيراً، قامت القوات الشرعية اليمنية باستعادة هذه الجزر. ولكن يظل هذا الاتجاه الاستراتيجي، ودائرة البحر الأحمر، في بؤرة الاهتمام المصري، وهو ما يوجب علينا تأمينه باستمرار، بمختلف الوسائل، أولها الدبلوماسية، والاتفاقات الثنائية، والتحالفات إن وجدت. ويظل العنصر العسكري متاحاً، إذا ما لزم الأمر. وهذا ما دعى الرئيس السيسي لتوقيع العديد من الصفقات العسكرية، لتبقى مصر، دائماً، جاهزة بقواتها المسلحة لتأمين هذه الدائرة، التي من شأنها التأثير على أكبر وأهم موارد الاقتصاد المصري، وهو قناة السويس.

الدائرة الخامسة: وهي دائرة البحر الأبيض المتوسط … تلك الدائرة التي برزت حديثاً على السطح لصانع القرار المصري. في الماضي كان المفكر المصري يعتبر هذه الدائرة هادئة، لا يعكر صفوها أية نزاعات، سوى ما يمكن أن يحدث بين مصر وإسرائيل، إلا أن الأحداث السياسية حولت هذه الدائرة إلى منطقة توتر. دولة ليبيا أصبحت خارج السيطرة، وسوريا، على الطرف الآخر، اشتعلت بها الأحداث، ومازالت مشتعلة، وتركيا، في الشمال، تشجع الإرهاب، بل وتدعمه. كل ذلك من الممكن احتواءه، حتى ظهر عامل جديد، سيشعل الصراع داخل دائرة البحر المتوسط في الفترة المقبلة، وهو اكتشاف الغاز الطبيعي في مصر وإسرائيل. فكما أكدت كل الدراسات، فإن البحر الأبيض المتوسط، يطفو فوق بحيرة من الغاز الطبيعي، وقد عزز ذلك اكتشافات حقل “شروق” المصري، وقيام شركة بريتيش بتروليوم (BP) بتوقيع اتفاقية مع مصر، مقدارها 12 مليار دولار، للبحث عن الغاز. تلا ذلك اكتشافات الغاز في سواحل قبرص، وبدأت اليونان، هي الأخرى، في أعمال البحث والتنقيب. وهو ما أدى لتكرار زيارات الرئيس السيسي، مؤخراً، إلى كل من قبرص واليونان، لترسيم الحدود البحرية بين مصر وهذه الدول، لمنع أي نزاعات مستقبلية في المنطقة، ومنع أي تدخلات أجنبية. واعتباراً من الآن، ستضع مصر هذه الدائرة نصب أعينها لحمايتها بكل الطرق. وهو ما يؤكد، مرة أخرى، على أهمية ما يقوم به الرئيس عبد الفتاح السيسي، بدعم القوات المسلحة المصرية بأحدث الأسلحة، لحماية، والدفاع عن الإمكانات الاقتصادية المستقبلية في المنطقة. ففي الماضي كنا نقول أن الحرب القادمة في المنطقة ستكون “حرب المياه”، أما اليوم فأقول، وبثقة، أن الحرب القادمة، في منطقتنا، ستكون “حرب الطاقة”.

عزيزي القارئ، كان ذلك استعراضاً تفصيلياً لمجريات الأمور في المنطقة، ولما تتعرض له مصر من تهديدات تؤثر على أمنها القومي. ونحمد الله على أن رئيس مصر، عبد الفتاح السيسي، بخبرته، يعلم تماماً حجم تلك التهديدات التي تؤثر على الدوائر الخمس للأمن القومي المصري. ولكن يبقى على مصر، وشعب مصر، أن يكون ملماً وواعياً بهذه المخاطر التي لم تجتمع على مصر طوال تاريخها. فلم يحدث أن كانت جميع الجبهات الاستراتيجية لمصر، مهددة عبر التاريخ، مثلما يحدث الآن. وعلى الشعب المصري أن يكون مدركاً ومتفهماً لكل الأحداث في المنطقة. وأقول دائماً أن ذلك هو قدر مصر، عبر التاريخ، أن تكون مطمعاً للغزاة من الهكسوس … حتى إنجلترا … مروراً بنابليون، لكنها ستظل قوية، بفكر قادتها، وصمود شعبها، وقوة جيشها العظيم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى